ولادة موسى عليه السلام ونشاته مع فرعون وهروبه من مصر الى الشام
كيف دخل بنو اسرائيل مصرا اول مرة
بعد أن أصبح يوسف عليه السلام حاكمًا في مصر، استقدم والديه وإخوته الأحد عشر من أرض فلسطين، وجاء بهم جميعًا إلى مصر.
عاش بنو إسرائيل، وهم ذرية يعقوب عليه السلام، في مصر دهرًا طويلًا وتكاثروا، وكانوا ذوي مكانة رفيعة فيها، وذلك لمكانة يوسف عليه السلام. وبعد مدة، نشبت الحروب والعداوات بين بني إسرائيل والأقباط في مصر (والأقباط هم أهل مصر الأصليين، وكلمة "قبطي" تعني مصري، والقبطية ليست ديانة، بل هي دلالة على جنس أهل البلد).
وعندما اشتعلت الحروب والعداوات، تغلب الفراعنة على بني إسرائيل واستعبدوهم وقتلوهم. حتى جاء فرعون شديد البطش والظلم، فتجبر وطغى وادعى الألوهية من دون الله عز وجل، كما أخبر الله تعالى في القرآن الكريم، قال عز وجل مخبرًا عن شأن فرعون: "فَحَشَرَ فَنَادَىٰ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ".
وكان فرعون يستضعف بني إسرائيل، فجعلهم عبيدًا وخدمًا، قال الله تعالى: "إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ".
وهذه الطائفة المستضعفة هم بنو إسرائيل، ذرية نبي الله يعقوب عليه الصلاة والسلام، الذين كانوا آنذاك من خيار أهل الأرض، وقد سلط عليهم هذا الملك الظالم يستعبدهم ويستخدمهم في أردأ الصناعات والحرف وأدناها، بالرغم من كل ذلك، كان يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، فلا يُبقي على النساء. فقد كان هذا الفرعون من المفسدين.
الرؤيا التي زعزعت كيان فرعون
وفي ليلة من الليالي، رأى فرعون رؤيا في منامه أفزعته؛ فقد رأى نارًا أقبلت من نحو بيت المقدس، فأحرقت دور أهل مصر وجميع الأقباط، ولم تضر أحدًا من بني إسرائيل. فاستيقظ مفزوعًا من الرؤيا، فجمع الكهنة والسحرة وقص عليهم الرؤيا، وسألهم عن تفسيرها. فأجمعوا على أنه سيأتي غلام وولد من بني إسرائيل سيكون هلاك أهل مصر أو هلاك ملك فرعون على يديه.
فقرر فرعون أن يقتل كل الغلمان الذكور من بني إسرائيل، حتى جعل رجالًا وقوافل يبحثون عن الحبالى ليعلموا بموعد ولادتهن، فلا تلد امرأة من بني إسرائيل ذكرًا إلا ذبحوه وقتلوه حين مولده في التو.
أما هذا المولود الذي يحترز منه، وقد قتل بسببه من النفوس ما لا يعد ولا يحصى، فسيربى في داره وعلى فراشه ويتغذى بطعامه وشرابه، وينشأ في قصره وبين يديه، وهو الذي يتبناه ويربيه وينفق عليه، ثم يكون هلاكه، بإذن الله، على يديه في دنياه وآخرته.
ولادة موسى عليه السلام
بعد مدة، قل عدد بني إسرائيل بسبب قتل أولادهم، وخشي وزراء فرعون أن يموت الكبار أيضًا، فمن يخدمهم ومن يستعبدون؟ حينها، وبعد أن مات كل ذكور بني إسرائيل، جاؤوا فرعون وأخبروه بذلك قرر فرعون أن يذبح الأطفال في عام ويتركهم في عام آخر. وفي السنة التي توقف فيها عن القتل، وُلد هارون عليه السلام. أما موسى عليه السلام، فقد وُلد في عام القتل. ضاقت أم موسى به ذرعًا، وأخفت حملها به منذ البداية، ولم تظهر عليها آثار الحمل. فلما ولدته وأرضعته، ألهمها الله عز وجل أن تصنع صندوقًا من خشب وتضع فيه هذا الغلام الصغير، فإذا خافت عليه فلتلقه في اليم، أي في النهر، وتتوكل على الله عز وجل، فإن الله تبارك وتعالى سيرده إليها ويجعله نبيًا من المرسلين.
فامتثلت أم موسى عليه السلام ووضعت الغلام في الصندوق، وجرى الصندوق في الماء بأمر الله عز وجل حتى وصل إلى قصر فرعون وتوقف أمامه. وجدت الجواري الصندوق في النهر، فنقلته إلى امرأة فرعون، وهي آسية بنت مزاحم رضي الله عنها. فلما فتحت آسية الصندوق ورأته أحبته حبًا شديدًا. فلما جاء فرعون وسأل عن الغلام، وأمر بذبحه في الحال، أخذته منه امرأته ودافعت عنه، وقالت: "قرة عين لي ولك". فقال لها فرعون: "أما لك فنعم، وأما لي فلا حاجة لي به". قال الله تعالى: "وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ ۖ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَو نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ".
حزنت أم موسى عليه السلام على ابنها وأصابها الهم والغم والحزن، وكادت لتكشف أمره وتسأل عنه جهرًا لولا أن الله جل وعلا ربط على قلبها وثبتها، فقالت لأخته، وهي ابنتها الكبرى قصيه أي اتبعي أثر موسى، واطلبي لي خبره فبصرت به عن جنب، أي كانت أخته تنظر إليه وكأنها لا تعرفه فإذا بموسى عليه السلام استقر بدار الفرعون، أرادوا أن يرضعوه فلم يقبل موسى ثديًا ولا أخذ طعامًا. قال الله تعالى: "وحرمنا عليه المراضع من قبل".
فحار في أمره فأرسل مع القوابل والنساء إلى السوق لعلهم يجدون من يوافق رضاعته. فبينما هم وقوف به والناس عكوف عليه إذ بصرت به أخته فلم تظهر أنها تعرفه، بل قالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون. فذهبوا معها إلى منزلهم فأخذته أمه فلما أرضعته التقم ثديها ورضع منها، ففرحوا بذلك وذهب البشير إلى زوجة فرعون يعلمها بذلك فاستدعت زوجة فرعون أم موسى إلى منزلها، وعرضت عليها أن تكون عندها وأن تحسن إليها، فأبت أم موسى ورفضت ذلك، وقالت متعللة أن لي بعلاً زوجًا وأولادًا ولست أقدر على أن أتركهم إلا أن ترسلوه معي.
فكلما أراد أن يرضع موسى يرسلونه إلى أمه فترضعه وكذلك رد الله عز وجل لأم موسى ابنها، كما وعدها وعد الله لا يخلف الله الميعاد.
حادثة موسى مع القبطي
تربى موسى عليه السلام في قصر فرعون، وبقي سنين طوالًا على هذه الحال حتى بلغ موسى أشده واستوى، فآتاه الله عز وجل حكمًا وعلمًا. خرج موسى عليه السلام في يوم من الأيام في وسط النهار والناس منشغلون وغافلون، فدخل المدينة فوجد فيها رجلين يقتتلان، فرأى هذين الرجلين يقتتلان ويتضاربان؛ هذا من شيعته، أي من بني إسرائيل، وهذا من عدوه، أي إنه قبطي مصري.
فلما استغاث الرجل من بني إسرائيل بموسى عليه السلام على ذلك القبطي المصري، أقبل موسى عليه السلام إليه فوكزه فقضى عليه، فمات القبطي من ضربه موسى دون أن يتعمد موسى قتله، وقد كان القبطي كافرًا مشركًا لله عز وجل، ولم يرد موسى عليه السلام قتله أبدًا، بل كان قتلًا خطأ، وإنما أراد زجره ورَدْعه عن بني وطنه من بني إسرائيل.
هرب الرجل الذي من بني إسرائيل، وحينها قال موسى: هذا من عمل الشيطان، إنه عدو مضل مبين، واستغفر موسى عليه السلام ربه، فقال: "رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي". فغفر الله عز وجل له، فأصبح موسى عليه السلام خائفًا يترقب، فصار يسير في المدينة ويتلفت يمنة ويسرى، فبينما هو كذلك وجد موسى نفس الرجل الذي استنصره بالأمس يصرخ ويستغيث مرة أخرى على رجل آخر قد قاتله، كما قال تعالى: {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ موسى انك لغوي مبين}.
فعنَّفه موسى ولامه على شدة طمعه وكثرة خصامه وشجاره. ثم أراد أن ينصره على ذلك القبطي الآخر ويخلصه منه، فلما عزم موسى على ذلك وأقبل على القبطي، ظن الرجل الإسرائيلي أن موسى أراد أن يبطش به هو، كما عنَّفه آنفًا، فردَّ عليه الإسرائيلي قائلًا: "يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسًا بالأمس؟ إن تريد إلا أن تكون جبارًا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين".
فلما سمع القبطي ما قاله الرجل، علم أن موسى عليه السلام هو الذي قتل ذلك الرجل المصري بالأمس، فانطلق إلى فرعون وأخبره بذلك. وشاع خبر موسى بينهم، فأرسل فرعون في طلب موسى وأمر بقتله، وسبق كل هؤلاء رجل صالح من شيعة موسى عليه السلام ليحذره وينصحه، قيل اسمه شمعون، فجاء مسرعًا إلى موسى فأخبره وحذره من فرعون وجنده، فقال: "يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج يا موسى من هذه البلدة الظالم أهلها إني لك من الناصحين".
هروب موسى من مصر إتجاه الشام
فخرج موسى من مصر هاربًا بلا زاد متوجهًا إلى الشام نحو مدين. ثم دعا موسى عليه السلام ربه عز وجل فقال: "رب نجني من القوم الظالمين".
ولما ورد موسى عليه السلام ماء مدين وجد عليه جماعة من الناس يطلبون السقيا لمواشيهم، ووجد من دونهم امرأتين تذودان وتمنعان أغنامهما عن الماء حتى يفرغ الناس، وتخلو لهما البئر.
فقال لهما موسى: ما خطبكما؟ قالتا: لا نسقي حتى يصدر الرعاء، أي حتى ينصرف الناس، ويصرفوا مواشيهم عن الماء ويعودوا، وإن أبانا شيخ كبير، (ويقال إن هذا الشيخ هو رجل ممن آمن مع النبي شعيب عليه السلام والله أعلم) ثم سقى لهما.
ويقال إن موسى زاحم القوم ونحى عن رأس البئر، ويقال إن القوم لما رجعوا بأغنامهم غطوا رأس البئر بحجر لا يرفعه إلا عشرة أنفار، فجاء موسى عليه السلام ورفع الحجر بمفرده، بإذن الله وقوته، وسقى لهاتين المرأتين، فرجعت الفتاتان لأبيهما الشيخ الكبير فاستنكر رجوعهما باكرًا عن كل يوم، فأخبرته المرأتان بما حصل لهما، فأمر إحداهما أن تذهب إلى موسى فتدعوه، فذهبت إليه تمشي على استحياء، وقالت لموسى: إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا.
فمشى موسى عليه السلام معها وهي خلفه، فلما دخل عليه رأى العشاء مهيئًا وهم جالسون، فدعاه الشيخ للجلوس، فجلس موسى وأكل، ثم سأله الشيخ عن نفسه وعن قصته فقصها موسى عليه.
قال الله تبارك وتعالى: "فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين".
فعند ذلك قالت إحدى البنتين لأبيها يا أبتِ استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين. فقال الشيخ الكبير لموسى عليه السلام: يا بني إني أريد أن أزوجك إحدى ابنتي هاتين (وذهب أكثر المفسرين إلى أنه زوجه الصغرى منهما) وقال على أن تكون أجيراً لي ثماني سنين، وإن أتممت عشر سنين فذاك كرم وتفضل منك، وليس بواجب عليك.
فقال موسى عليه السلام للشيخ الكبير الأمر على ما قلت إن شاء الله فأيهما قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول شهيد وهو على ما نقول وكيل. قيل إن موسى عليه السلام أكمل الأجلين وأتمه أي عشر سنين تماماً.
رجوع موسى عليه السلام الى مصر
بعد السنين العشر التي قضاها موسى عليه السلام عند ذلك الشيخ الكبير اشتاق موسى عليه السلام إلى أهله وأراد العودة إلى مصر فخرج بزوجته وأولاده وخيرات كثيرة قاصداً أرض مصر. وأثناء سيره أضاع موسى عليه السلام الطريق في صحراء سيناء.
وفي ليلة مظلمة باردة يسير موسى عليه السلام وزوجته وأولاده معه واشتد عليهم الظلام والبرد. فبينما هم كذلك إذ أبصر موسى عليه السلام ناراً بعيدة تتأجج في جبل طور سيناء فأمر أهله بالمكوث في مكانهم حتى يعود إليهم بالخبر.
يتبع...