الليلة التي رحل فيها جمال عبد الناصر

في الليلة التي رحل فيها جمال عبد الناصر

جمال عبد النصر
جمال عبد الناصر


في 28 سبتمبر 1970م، ذُهل العالم أمام مشهدٍ لم يكن متوقعًا، إذ خرج المصريين ، بل و معضم  العرب ، في نوبة من البكاء والعويل الهستيري على رحيل جمال عبد الناصر. عاشت الدول العربية ـ ومصر تحديدًا ـ ثلاثة أيام كئيبة ، تخللتها مشاهد جنائزية مهولة، سار فيها الملايين يصرخون ويلطمون ويذرفون الدموع.

نظرة الغرب للشعب المصري في ظل هذا الحزن

أما الغرب، وقد اعتاد الناس فيه أن يُحاسبوا حاكمهم، لا أن يعبدوه،  بدا ما جرى في أسبوع وفاة عبد الناصر غير مفهوم إطلاقًا ؛ فقد كان من العسير على من اعتادوا الحياة في ظل نوع من الحرية أن يتفهموا حالة الاكتئاب الجماعي التي اجتاحت هؤلاء البشر كالوباء، فجعلتهم يفقدون وعيهم ويستسلمون لانفعالات عارمة طغت على عقولهم.

كان عبد الناصر ـ في نظر هؤلاء ـ ديكتاتورًا يحتقر شعبه بقسميه: الواعي وغير الواعي، الصامت والمتكلم، الثائر والمستكين. عُرف عنه قمعه للمثقفين والأحرار بالاعتقال والسجون والتعذيب، وحرصه على إخضاع العامة لآلة إعلامية تمارس عليهم غسيل أدمغة جماعيًّا يحول بينهم وبين الوعي بمصالحهم ، فهم في عرفه واحد: مشروع للركوع. لم يكن يثق إلا في الحديد والنار، ولا يتعامل إلا بالقمع والإذلال.

ولذلك، فإنه بحسب الموازين العقلانية، كان من الطبيعي أن يفرح المصريون بموت من احتقرهم، وسجنهم، وامتهن إرادتهم. أو في الحد الأدنى، أن يكتفوا بعدم الشماتة في الموت . وحتى إذا بالغوا في التعبير عن المشاعر، فلتكن الدموع قليلة.

أما أن يعمّ البلاد هذا الحزن الجارف، ويغمرها هذا الاكتئاب الجمعي، فذلك ما بدا عصيًا على الفهم.

هذه الظاهرة لم تكن الأولى. فقد تكررت عقب هزيمة يونيو 1967م، الهزيمة الكارثية التي لم تحمل في طياتها سوى الخراب والدمار. خرجت الجماهير في الشوارع تبكي وتنادي، لا على من نكّس راياتها، بل  يطالبون عبد الناصر بعدم التنحي عن الحكم، وذلك رغم أنه:

  • فقد خمس الأراضي المصرية.
  • خسر ما تبقى من فلسطين للاحتلال، من الضفة الغربية إلى غزة، و خسر بيت المقدس ثالث أقداس المسلمين ، حتى صارت أقصى أحلام العرب اليوم أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه قبل تلك الحرب المشؤومة .
  • تسبّب في مقتل الآلاف من الجنود المصريين والعرب، وتشريدهم وتشويههم، دون أن يخوض جيشه معركة حقيقية واحدة.

تُختصر خيبة عبد الناصر بالأرقام:

  1. قُتل في حرب 1967 نحو 11,500 جندي مصري.
  2. أُسر 5,500 آخرون، وتاه 25,000 في الصحراء.
  3.  دُمّر 95% من سلاح الطيران المصري خلال 12 ساعة فقط.
  4. خسر الجيش 85% من سلاحه البري ، وكأننا أمام جيش من ورق، لا من رجال.

والأخطر من ذلك: تحطيم الروح المعنوية للمصريين والعرب عمومًا، الذين كانوا يظنون أنفسهم القوة الضاربة في الشرق الإسلامي ،  واكتشفوا فجأة أنهم  أضعف بكثير مما كانوا يظنون ، و دولة عبد الناصر التي إعتقدوا قوتها الكبيرة انهارت في ست ساعات فقط ، بينما صدى خطاباته العنترية لا يزال يتردد في الآذان ، و برز للأذهان أن الجيش الص.هيو.ني لا يهزم .

ومع ذلك، لم يتعلم الناس. ففي أغسطس 1967، أي بعد شهرين فقط من الهزيمة، استُقبل عبد الناصر في الخرطوم استقبال الأبطال، عندما حضر مؤتمر القمة العربي. وقد عبّرت الصحف الغربية، لا سيما الأمريكية، عن دهشتها من هذا الاستقبال الحار، قائلةً: "لأول مرة في التاريخ، يُستقبل قائد مهزوم بذلك الحفاوة التي لا يحظى بها حتى الغزاة المنتصرون!"

ولا عجب، فالأمة التي تبكي جلادها حين يموت، هي ذاتها التي تستقبله بالبكاء حين يُهزم . وهذا المشهد ما زال يتكرر، من المحيط إلى الخليج: الطغاة يموتون، والعبيد يبكون : الناس تخرج للبكاء على جلادها، والنوائح تندب من تسبّب في شقائها ومآسيها.

لهذا، لا بد من التماس تفسيرات أعمق لهذه الظاهرة. أحدها يتجلى في فهم طبيعة "العبيد"، كما عبّر عنها المفكر الشهيد بإذن الله سيد قطب رحمه الله: "العبيد هم الذين يهربون من الحرية، فإذا طردهم سيد، بحثوا عن سيد آخر؛ لأن في نفوسهم حاجة ملحّة إلى العبودية، لهم حاسة سادسة... أو سابعة، حاسة الذل، لا بد لهم من إروائها. فإذا لم يستعبدهم أحد، أحسّت نفوسهم بالظمأ إلى الاستعباد، وتراموا على الأعتاب، يتمسّحون بها، ولا ينتظرون حتى إشارة من إصبع السيد، ليخرّوا ساجدين."

ويقول عبد الرحمن الكواكبي: "العوام هم قوّة المستبد و قوته، بهم عليهم يصول ويطول، يأسرهم فيتهلّلون لشوكته، يغصب أموالهم فيحمدونه على إبقائه حياتهم، يهينهم فيثنون على رفعته، يُغري بعضهم على بعض، فيفتخرون بساسته، وإذا أسرف في أموالهم قالوا كريم، وإذا قتل منهم ولم يمثّل قالوا رحيم، يسوقهم إلى خطر الموت فيطيعونه حذر التوبيخ، وإن نقم عليه منهم بعض الأباة قاتلهم كأنهم بغاة."

📚 المرجع: كتاب "الطاغية" – إمام عبد الفتاح إمام.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال